في أعماق التاريخ، مدفون في طبقات الرماد والذكريات، يوجد نص قديم يُعتبر من كنوز حضارة الإغريق. يعود هذا النص، المعروف باسم “لفافة هيركولانيوم”، إلى نحو 2000 عام، حيث دُفن بفعل ثوران جبل فيزوف. اليوم، تتقدم الأبحاث لتكشف النقاب عن بعض أسراره باستخدام تقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي ومسرعات الجزيئات. برغم أن الجزء الأكبر من النص لا يزال غير مقروء، إلا أن العلماء نجحوا في تحديد بعض الكلمات الإغريقية مثل “حمق” و”خوف” و”اشمئزاز”. يستعرض هذا المقال الجهود الرائدة التي بذلتها الفرق البحثية في جامعة أكسفورد للكشف عن محتوى هذه اللفافة القديمة، وما يمكن أن تعنيه هذه الكلمات المكتشفة لشعيرة الفكر والفلسفة في تلك الحقبة. استعد لاكتشاف هذا العالم المثير والغريب الذي عُرف بأسلافه الأذكياء، والذي يسعى الباحثون اليوم لإعادة اكتشافه.
اكتشاف النصوص القديمة في لفائف هيركولانيوم
تم العثور على لفائف هيركولانيوم في القرن الثامن عشر، وقد دخلت في حالة من الاحتراق نتيجة ثورة جبل فيزوف التي حدثت منذ حوالي 2000 عام، مما جعل النصوص التي تحتويها غير قابلة للقراءة لفترة طويلة. ومع ذلك، توصل الباحثون في السنوات الأخيرة إلى الطريقة المثلى للكشف عن محتويات هذه اللفائف باستخدام تقنيات متطورة مثل الذكاء الاصطناعي والمسرعات الجزيئية.
تُعتبر اللفائف المكتشفة مثل PHerc. 172 محط أنظار العلماء، حيث تمكنوا من تحديد بعض الكلمات اليونانية القديمة، مثل “أحمق” و”خوف” و”اشمئزاز” و”حياة”. على الرغم من أن النصوص المستعودة لا تزال غير مكتملة، إلا أن هذه الكلمات تشير إلى إمكانية وجود محتوى فلسفي ولا شك أنها تعود إلى الفيلسوف والشاعر فيلوديموس، الذي عاش في الفترة من 110 إلى 30 قبل الميلاد.
قام فريق من المكتبيين وعلماء الكمبيوتر والباحثين من جامعة أكسفورد بالتعاون مع مختبرات ديموند لايت سورس في المملكة المتحدة لإجراء مسح لللفائف. باستخدام تقنية المسح بالأشعة السينية عالية الدقة، تمكنوا من إلقاء نظرة داخل اللفائف التي تكونت من رماد بركاني، ولكنها الآن هشة للغاية لفتحها جسدياً. بالإضافة إلى ذلك، ساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين وضوح النص الذي تم اكتشافه.
إن الاكتشافات المتعلقة باللفائف لا تمثل فقط تقدمًا علميًا في مجال الدراسات القديمة، بل تسهم أيضًا في إعادة إحياء جزء من التاريخ الإغريقي الفلسفي الذي كان مؤثرًا للغاية على الفكر الغربي. يظهر هذا التعاون بين التكنولوجيا الحديثة وكشوفات الماضي كيف يمكن للعلم أن يتخطى الحدود التقليدية ليعيد لنا الكنوز الثقافية الضائعة.
التكنولوجيا المستخدمة في فك الشيفرة
كان للتقدم التكنولوجي دور بارز في فك رموز لفائف هيركولانيوم، حيث تم استخدام مسرع الجزيئات (السنسور) الذي يعمل على تسريع الإلكترونات لتنتج ضوءًا ساطعًا يعادل 10 مليار مرة أكثر سطوعًا من الشمس. يعتمد هذا النظام على إنتاج صور عالية الدقة للغاية، مما يساعد الباحثين في رؤية العلامات والآثار الموجودة على ورق اللفائف، حتى وإن كانت متفحمة.
العنصر الآخر هو استخدام الذكاء الاصطناعي، حيث تم تطوير أدوات تحليلية تستطيع الكشف عن الحبر على صفحات اللفائف المحترقة. تقوم هذه الأدوات بالبحث عن الأنماط في الكتابة وصياغة كلمات يمكن أن تشكل نصوصًا واضحة. ومع ذلك، ما زالت هذه التقنيات تسعى للوصول إلى مستوى من الفهم العميق للغة، حيث لا تزال معالجة النصوص تتطلب تدخلاً بشريًا لفهم وتفسير الكتابات المكتشفة.
إن الجمع بين هذه التقنيات الحديثة هو جزء من جهود مستمرة لفهم أعمق للتاريخ ولتقديم أحاسيس جديدة عن العصور القديمة. فعلى سبيل المثال، تمكّن أحد المتسابقين في مسابقة Vesuvius Challenge من تحديد كلمة “البورفورا”، التي تعني “الصباغ الأرجواني”. يمثل هذا الاكتشاف دلالة على مدى قرب البحث العلمي من استعادة الفهم الكامل لثقافة هيركولانيوم.
هذا الجهد العظيم من الباحثين يعني أن علم الآثار لا يزال في تطور مستمر، وأن الحلول التكنولوجية ليست مجرد أدوات، بل هي جسر يعيدنا إلى لحظات تم تفويتها من التاريخ.
أهمية الاكتشافات الثقافية والتاريخية
تقديم نصوص قديمة ومراجع فلسفية يعيد إشعال مناقشات حول تأثير الفلاسفة مثل فلسفة فيلوديموس على الفكر الحديث. إن هذه اللفائف تمثل نافذة إلى كيفية تفكير الناس في العالم القديم، وكيف شكلت تلك الأفكار الحضارة الحديثة. الشيء الأكثر إثارة هو كيف يمكن لنصوص مكتوبة منذ أكثر من 2000 عام أن تستمر في التأثير على الفكر والفنون والفلسفة.
تعتبر هذه الاكتشافات أيضًا دليلاً على أهمية الحفاظ على التراث الثقافي، حيث يساعد فهم النصوص القديمة على إعادة تشكيل هويتنا الثقافية. بالإضافة إلى ذلك، يفتح هذا المجال الأبواب أمام دراسة الفنون وأساليب الكتابة لشعراء وفلاسفة كانوا مبدعين في عصورهم. كل كلمة جديدة تظهر من هذه اللفائف تضيف تعقيدًا وعمقًا للفهم الثقافي الذي يشكل أساس الأفكار الحديثة.
علاوة على ذلك، يمثل نجاح هذا المشروع تذكيرًا بمدى أهمية التعاون بين التخصصات المختلفة. حيث يلتقي العلماء والمكتبيون وعلماء الكمبيوتر لمعالجة التحديات القديمة باستخدام أحدث التقنيات، مما يخلق مجتمعًا علميًا أكثر تماسكًا يمكنه التعامل مع مشكلات معقدة. هذه يمكن أن تكون نموذجًا يحتذى به لمشاريع بحثية مستقبلية في مختلف المجالات.
إن الأهمية الثقافية التي تحملها هذه النصوص ليست محصورة فقط في التاريخ، بل تتعلق بمستقبلنا أيضًا. تعيد تلك الاكتشافات تعريف كيفية ارتباطنا بالماضي وبتطور المعرفة البشرية، مما يفتح المجال أمام فصول جديدة من البحث والدراسة.
تم استخدام الذكاء الاصطناعي ezycontent
اترك تعليقاً