في عالم مليء بالتغييرات السريعة والصراعات الجيوسياسية، تبرز الصين كأحد الفاعلين الرئيسيين الذي يواجه تحديات داخلية وخارجية معقدة. في هذه المقالة، يستعرض البروفسور كاي-ألكسندر شليفيغت، خبير القيادة الاستراتيجية والسياسة الاقتصادية، الوضع الحالي للصين ويحلل الرؤية المستقبلية للبلاد في سياق عالم جديد يتطلب إعادة ضبط العلاقات والتوجهات الاستراتيجية. بينما يبدو أن الطريق أمام الصين محفوف بالمخاطر، فإن هناك أيضًا فرصًا استراتيجية يمكن استغلالها من خلال الاستجابة الذكية للتحديات. سيكون التركيز على إعادة التوازن الاقتصادي داخليًا ودوليًا هو المفتاح للوصول إلى مستقبل مزدهر. تابعونا لاستكشاف هذا الموضوع المعقد ولمعرفة كيف يمكن للصين أن تحول الأزمات إلى فرص جديدة.
الوضع الحالي: التحديات الداخلية والدولية
يتجه الوضع في الصين نحو مزيد من التدهور، حيث تعاني البلاد من أثر وباء كوفيد-19 الذي لم تتعافَ منه بالكامل بعد. على الرغم من أن هذه التوقعات تبدو واعدة مقارنة بدول أخرى، إلا أن النمو الذي يقارب 4.8% في عام 2024 يمثل تخفيضًا كبيرًا بالمقارنة مع المعدلات التي احتفظت بها الصين على مدار العقود الماضية. من عام 1978، عندما بدأت سياسات الانفتاح والإصلاح، سجلت البلاد متوسط نمو تجاوز 9%. الآن، تعاني الصين من مشاكل داخلية عديدة، مثل الصعوبات في قطاع العقارات، والبطالة بين الشباب، وزيادة نسبة الشيوخ، مما أدى إلى تفاقم نسبة الاعتماد على العمالة. تتزايد هذه الأزمة مع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي انخفض بنسبة 30.4% خلال الفترة الأولى من عام 2024 مقارنة بالعام السابق.
على الصعيد الدولي، تواجه الصين تحديات مقلقة، خاصة مع تصعيد الضغط من الغرب. قوبل التوجه السابق نحو التعاون والتآزر بشيء من العداء، حيث تم تصنيف الصين كعدو استراتيجي من قبل عدد من الدول الغربية. وضع ذلك البلاد في موقف صعب، حيث كانت الشركات الغربية في الماضي تتسابق للاستفادة من الفرص في السوق الصينية. ومع ذلك، مع ظهور الحروب التجارية والرسوم الجمركية المرتفعة، يتضاءل احتمال استمرار النمو الاقتصادي عبر الصادرات. مثال على ذلك هو الزيادة المرتقبة في الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية، والتي ستؤثر بشدة على الصادرات.
تتفاقم التحديات بالنسبة للصين أيضًا من خلال تحولات جيوسياسية في محيطها. كوريا الشمالية، التي كانت تُعتبر حليفًا تقليديًا لبكين، بدأت تتجه نحو روسيا، وهو ما يمكن أن يُعد تحولًا في التحالفات التقليدية في منطقة شرق آسيا. يأتي هذا التغيير في إطار التحديات الكبرى التي تواجهها الصين، مما يمهد الطريق لاعتبارات جديدة حول كيفية إدارة السياسة الخارجية والإستراتيجية.
الطريق إلى الأمام: التوازن كعقيدة توجيهية
رغم كل الصعوبات، هناك دائمًا فرص كامنة في الأزمات. تُظهر الدراسات الثقافية أن كلمة “أزمة” في اللغة الصينية تتكون من عنصرين: الخطر والفرصة. هذا الفهم يمكن أن يساعد القادة في اتخاذ قرارات استراتيجية فورية تلبي التحديات والاحتياجات. لتحقيق التوازن في السياسات، يتعين على القيادة الصينية أن تبتكر خططًا متميزة تركز على إعادة هيكلة النمو الداخلي والخارجي.
أحد الخطوات الأولى التي يجب أن تتخذها الصين هو تعزيز السياسات المحلية من خلال إعادة توجيه النمو من الاعتماد على الاستثمارات إلى تعزيز الاستهلاك. تشير النماذج الاقتصادية إلى أن زيادة الاستثمارات قد تؤدي إلى عوائد متناقصة، مما يعني أن كل وحدة إضافية من الاستثمار لن تحقق النتائج المتوقعة. في حين أن الاستثمارات كانت محركًا رئيسيًا للاقتصاد الصيني لعقود، هناك حاجة ملحة للانتقال نحو نموذج نمو يعتمد بشكل أكبر على الاستهلاك المحلي لتعزيز الاقتصاد.
علاوة على ذلك، يمكن أن يدعم تعزيز الاستهلاك إجراءات سياسية مثل تخفيض الضرائب وزيادة التحويلات المالية للمستهلكين. على سبيل المثال، إذا تمكنت الحكومة من دفع الناس إلى إنفاق المزيد، فسوف يقلل ذلك من الاعتماد على الصادرات وبالتالي يقلل التعرض للمخاطر الناتجة عن الأزمات الخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الصين إلى قبول دور الشركات الخاصة كعناصر رئيسية في تحقيق النمو من خلال الابتكار. لقد ساهمت هذه الشركات بشكل كبير في إنجازات البلاد الاقتصادية من خلال تقديم الجديد في مجالات متعددة. من خلال دعم الابتكار وتبني ممارسات تجارية أفضل، يمكن للصين أن تعزز من قدراتها التنافسية على المستوى الدولي وتعزز من نموها الداخلي.
إعادة التوازن الدولي: محور “BMB” عبر طريق الحرير متعدد المراكز
تسعى الصين الآن إلى إعادة بناء العلاقات الدولية من خلال ما يسمى بـ “محور BMB” (الصين، روسيا، آسيا الوسطى). هذا المحور يمثل استجابة مباشرة للتحديات التي تواجهها الصين في سياق القوى الغربية المعادية. الهدف من هذا المحور هو تعزيز التجارة والاستثمار بين الدول الأعضاء، مما يعزز من التكامل الإقليمي ويقلل من الاعتماد على السوق الغربية المليئة بالتحديات.
ببساطة، يحتاج النموذج الجديد الذي تسعى الصين لإنشائه إلى التركيز على كيفية استخدام البنية التحتية والتكنولوجيا لتعزيز العلاقات بين الدول والشعوب. يعد “طريق الحرير” التقليدي بمثابة رمز للارتباط الجغرافي والثقافي، ويسعى الصينيون لإعادة تعريف هذا الطريق ليصبح شبكة من الطرق البرية والبحرية التي تربط بين مختلف الدول.
تتطلب هذه الاستراتيجية الجديدة من الصين إدراك عميق للقوى العالمية المتعددة. يجب أن تُدرس كيفية إقامة تحالفات مع الدول التي تشارك الصين في المصالح الاقتصادية والسياسية. مثال على ذلك هو تعزيز التعاون مع الدول في مناطق جنوب شرق آسيا ووسط آسيا، مما يتيح للصين تنويع أسواقها وضمان تدفقات اقتصادية أكثر استقرارًا.
علاوة على ذلك، يمكن أن تُعتبر مبادرة “الحزام والطريق” أحد الأمثلة الرائدة على كيفية استخدام الاستثمارات في البنية التحتية لتعزيز العلاقات الدولية. من خلال ذلك، تستطيع الصين إعطاء أفق مستقبلي للدول المعنية، مما يزيد من قوتها الناعمة ويعزز من مكانتها كقوة عالمية مؤثرة.
الشراكات العابرة للقوميات وتغير الرؤية العالمية
تتحدث الشراكات العابرة للقوميات عن كيفية تشكيل التحالفات والروابط بين الدول بغض النظر عن الحدود الثقافية والسياسية، من خلال تبني منظور جديد يتجاوز المفاهيم التقليدية القومية والعنصرية. على سبيل المثال، ينظر إلى الشراكة بين الصين والدول النامية على أنها مثال مثير للاهتمام، حيث تقوم الصين بتمويل مشاريع البنية التحتية في أكثر من 150 دولة عبر مبادرة الحزام والطريق. هذا المشروع لا يهدف فقط إلى تعزيز العلاقات التجارية، بل يسعى أيضًا لإنشاء شبكة واسعة من الشراكات الاقتصادية والسياسية. بالطبع، مثل هذا النهج يأتي مع تحدياته، حيث تواجه الدول التي تعتمد على الاستثمارات الصينية ضغوطًا تتعلق بالديون والتبعية الاقتصادية. ومع ذلك، يجب أن تُعتبر هذه الفرص فرصة لصياغة علاقات أكثر نجاحًا واستدامة من خلال تعزيز الاستقلالية والاحترام المتبادل بين الشركاء.
طريق الحرير الجديدة: مميزات وتحديات
مشروع طريق الحرير الجديد، الذي يُعرف أيضًا بمبادرة الحزام والطريق، هو تجسيد لرؤية استراتيجية من قبل الصين لتعزيز الروابط مع الدول الأخرى. بدأ هذا المشروع في عام 2013 بإشراف الزعيم الصيني شي جين بينغ. يكمن دور هذا المشروع في توفير التمويل لمشاريع البنية التحتية التي تعزز الاتصال التجاري العالمي، مما يعكس التفوق الاقتصادي للصين. لكن على الجانب الآخر، يظهر الانتقاد من قبل بعض الدول التي تفزع من تزايد حجم الدين والاعتماد على التمويل الصيني. لنجاح الطريق الحريري الجديد، تحتاج الصين لتبني مقاربة مبنية على الشفافية، مع مشاركة المخاطر مع الأطراف الأخرى بدلاً من التصرف انفرادياً. ينبغي أيضًا أن تركز الصين على تمويل المشاريع القابلة للتطبيق والتي تتناسب مع احتياجات الدول المستفيدة.
الأمن والسياسة: نحو تحالفات جديدة
الأمن هو محور مهم في سياسة العلاقات الدولية، والصين قادرة على لعب دور رئيسي في خلق تحالفات جديدة ترتكز على مفهوم السيادة الوطنية والمصالح المشتركة. المقارنة بين الصين وألمانيا توضح كيف يمكن للدول أن تتبنى استراتيجيات النجاح تتمحور حول الشراكات المتساوية بدلاً من الهيمنة. يجب أن تتفادى الصين الأخطاء التاريخية لألمانيا التي ضحت بسيادتها الوطنية لمصالح ضيقة. يتضمن هذا النهج الجديد من الصين وضع الأهداف السياسية والاقتصادية بشكل متوازن، مما يتيح لها كسب الشركاء في إطار تحالف يهدف للاستقلال الاقتصادي والسياسي عن القوى الغربية التقليدية. هذا يعني أيضًا أن تحالفات جديدة مثل محور BMB – بكين وموسكو وبرلين – يمكن أن تؤدي إلى استقرار وسيطرة أكبر في السوق العالمية.
القوة الناعمة وتأثيرها على المصداقية العالمية
تعتبر القوة الناعمة أحد العناصر الحاسمة في سياسة الصين الخارجية. تستخدم البلاد القوة الناعمة لزيادة تأثيرها العالمي بشكل لا يعتمد على التهديدات العسكرية. يتضمن ذلك تقديم المساعدات التنموية، تمويل مشاريع البنية التحتية، وتعزيز العلاقات الثقافية. من خلال دمج القيم التقليدية في سياساتها، يمكن للصين تعزيز علاقتها مع الدول التي تشاركها نفس القيم، مما يساعد في مواجهة الأفكار النيوليبرالية التي تحاول إملاء تصورات العمران الثقافي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الانفتاح على المجموعات التي يمكن أن تكون شريكة في المستقبل أمر حيوي لتعزيز العلاقات الاستراتيجية. التركيز على التطورات التكنولوجية والابتكارات أيضاً يمكن أن يسهم في تعزيز القوة الناعمة للصين.
آفاق مستقبلية للسياسة الصينية الخارجية
مع الأخذ في الاعتبار التغيرات السياسية السريعة التي يشهدها العالم، يجب على الصين أن تأخذ خطوات استباقية لبناء تحالفات جديدة واستدامة وجودها على الساحة العالمية. بالتحديد، ينبغي أن تشكل الرؤية المتجددة لهذه التحالفات في إطار سياسة عدم التدخل وحفظ حقوق السيادة الوطنية. في ظل تصاعد العداء من البلدان الغربية، الفرصة مهيأة للصين لبناء جسور جديدة مع الدول الضعيفة والناشئة. ينبغي أن تظهر الصين نموذجها الحوكمي وطريقة تعاملها الذكية في القضايا الدولية، خاصة فيما يتعلق بقضية تايوان التي تحتاج لرؤية صائبة تقترب من روح الوحدة ونبذ العنف. القدرة على توظيف الأساليب السلمية وفي الوقت المناسب ستمكن الصين من تعزيز سمعتها وفاعليتها في النظام الدولي.
رابط المصدر: https://www.rt.com/news/611617-china-silky-future-realigned-world/
تم استخدام الذكاء الاصطناعي ezycontent
اترك تعليقاً