في خضم الصراعات المستمرة في سوريا، برزت مجموعة “هيئة تحرير الشام” (HTS) كقوة مؤثرة تسيطر على مناطق واسعة من البلاد. ومع هذا النفوذ، يأتي سؤال حاسم حول مصادر تمويل هذه الجماعة. في ظل غياب الشفافية عن ميزانيتها وقائمة الممولين، انطلقت تكهنات تتعلق بدور دولٍ مثل تركيا وبعض الدول العربية، وأيضًا الولايات المتحدة وإسرائيل، في دعم HTS بالمال والسلاح. بينما تشير الأبحاث إلى أن الهيئة تعتمد بشكل أساسي على التمويل الذاتي، يستمر النقاش حول الروابط المحتملة مع الأطراف الخارجية. في هذا المقال، نستعرض الأساليب المختلفة التي اتبعتها هيئة تحرير الشام لجمع الأموال، ونتناول تأثير تلك المصادر على موقعها في الصراع السوري وما يعنيه ذلك للمستقبل السياسي للبلاد.
تمويل هيئة تحرير الشام: أين يكمن التمويل؟
كانت هيئة تحرير الشام (HTS) موضوعًا للجدل حول مصادر تمويلها، خاصة بعد أن أصبحت مسيطرة على أجزاء كبيرة من سوريا. إنهم لا ينشرون ميزانية أو قائمة للجهات المانحة، مما يجعل عمليات التمويل غير شفافة للغاية. الكثير من التكهنات بدأت تدور حول الدول التي قد تكون ساعدتهم، بما في ذلك تركيا والدول العربية والخليجية وأكرانيا وحتى الاستخبارات الأمريكية أو إسرائيل. ومع ذلك، يشير العديد من الباحثين الذين تتبعوا نشاطات الهيئة إلى أن معظم تمويلها يأتي من مصادر ذاتية، حيث يجمعون الأموال عن طريق فرض الضرائب في قاعدة سلطتهم في إدلب بالإضافة إلى تشغيل معبر حدودي مع تركيا.
علاوة على ذلك، يُعتقد أن هيئة تحرير الشام تتلقى مساعدات مالية من مغتربين سوريين أثرياء كانوا ضد حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد. على سبيل المثال، يفرضون ضرائب على المقيمين في إدلب، كما أنهم قاموا بتجميع ثروات ضخمة من عمليات تهريب النفط وتجارة الأسلحة. إن الظروف الاقتصادية التي عاشتها إدلب سمحت لهم بالاستمرار في السلطة والخلاص من الضوابط الخارجية.
الأهم من ذلك، أن مجموعة HTS قد أظهرت استقلاليتها من خلال عدم ارتباطها بأي بلد بعينه، حيث يعتبرهم الكثيرون أنهم ينظرون إلى البلدان الأخرى على أنهم كفار أو مرتدين. على الرغم من ذلك، يسعى القادة الحاليون لتحسين علاقاتهم مع الدول الأخرى لتعزيز شرعية حكومتهم الجديدة وكسب المال والمساعدات لإعادة بناء البلاد التي دمرت بفعل النزاع.
تحول نماذج التمويل: من الجهادية إلى البنية التحتية
تأسست هيئة تحرير الشام كجزء من الثورة السورية عام 2011، وفي بدايتها، كانت تموّل من خلال الأساليب التقليدية لمنظمات الجهادية مثل الابتزاز والخطف وتهريب النفط. ومع تقدم الزمن، تحول نموذج التمويل إلي ما هو أكثر تنظيماً وبيروقراطياً، بحيث أصبحت الهيئة تفرض ضرائب متنوعة على رجال الأعمال المحليين والمقيمين. على سبيل المثال، يتم تقديم مستندات رسمية مثل بطاقات الهوية السكانية للمقيمين، وهو ما يتيح لهم فرض ضرائب على الوضع المالي للأفراد.
في إدلب، يدفع المواطنون ضرائب تتراوح بين 2.5% لصالح الزكاة إلى ضريبة طرق وضريبة دخل على الأفراد والشركات الصغيرة. وقد ساهم هذا الإيراد في توفير رواتب للمقاتلين وتصنيع الطائرات بدون طيار وغيرها من الأسلحة. هذا التغيير في نمط التمويل يعكس تحول الهيئة من مجموعة جهادية صرفة إلى كيان حاكم يسعى لتحقيق استقرار إقليمي.
مع ذلك، يشير الخبراء إلى أنه على الرغم من التحسينات في الهيكلية المالية والضريبية، إلا أن سكان إدلب لا يزالون يشعرون بالإحباط بسبب عدم تقديم الحكومة للسلع والخدمات الأساسية. قلة البنية التحتية والموارد تمت مناقشتها بشكل دوري من قبل السكان، مما أدى إلى احتجاجات ضد سياسات HTS. فالكثير من النازحين داخليًا في إدلب وجدوا صعوبة في التكيف مع الضرائب الإضافية، حيث يطالبهم HTS بدفع قيمة الإيجار حتى على الخيام المخصصة لهم على الأراضي العامة.
هيئة تحرير الشام والمعابر الحدودية: سيطرة على الموارد
تعتبر المعابر الحدودية بين سوريا وتركيا واحدة من أبرز مصادر الإيرادات لهيئة تحرير الشام. تمكنت الهيئة من إقامة نقاط toll عند المعابر، وجمع الرسوم من حركة المرور التجارية والمساعدات الإنسانية. على الحدود، تتراوح الرسوم من 3 إلى 7 دولارات لكل طن من البضائع، وتشير التقديرات إلى أن الهيئة قد تجمع ما يصل إلى 15 مليون دولار شهريًا من العبور عبر معبر باب الهوى، الذي يُعتبر المدخل الرئيسي إلى شمال سوريا.
علاوة على ذلك، يُعتقد أن هيئة تحرير الشام قد صادرت أسلحة من مجموعات مسلحة أخرى عند المعابر الحدودية. يمثل ذلك وسيلة أخرى لتعزيز قدراتها العسكرية، مما يعكس الصراع المتواصل بين الجماعات المقاتلة في المنطقة. مع أن العديد من الخبراء يرون أن تركيا قد تكون قد استفادت من السيطرة HTS على منظمات أخرى، إلا أنهم يؤكدون أن هذا لا يعني بالضرورة أنقرة قد قادت أو مولت العملية. بل يُعتبر التحدي النفسي الذي يواجهه HTS أنه لا يزال تصنيفهم كجماعة إرهابية في كثير من الأحيان ركز على الحاجة إلى تحسين صورتهم على الساحة الدولية.
إن العلاقة المعقدة مع تركيا تؤكد رغبة هيئة تحرير الشام في إضفاء الشرعية على حكمها وفي الوقت نفسه الحفاظ على استقلالها، وهو أمر ذو أهمية لضمان استمرارية نشاطهم في ظل التوترات السياسية المستمرة. تشير التصريحات من قادة HTS إلى أن النظام الجديد في سوريا سيواصل إقامة علاقات استراتيجية وتجارية مع تركيا، مما يبرز تزايد تأثير أنقرة في الشأن السوري.
التحولات في السيطرة على الأراضي السورية
في أكتوبر 2023، قامت هيئة تحرير الشام (HTS) بتوسيع سيطرتها شرقًا من إدلب إلى مدينة عفرين والقرى المحيطة بها، والتي كانت تحت سيطرة جماعات معارضة مدعومة من تركيا. لم تواجه هذه الجماعات المعركة، مما يوحي بأن تركيا قد وافقت ضمنيًا على امتداد سيطرة HTS. يشير تشارلز ليستر، مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط، إلى أن هذا الاتجاه قد بدأ منذ عام. فالسيطرة الإضافية على أراضي جديدة تمثل تحولًا كبيرًا في الديناميات العسكرية والسياسية في سوريا، وتعكس على الأرجح استراتيجيات جديدة تتبناها HTS لتعزيز نفوذها.
العوامل متعددة، لكن استخدام الطائرات بدون طيار يعد عاملاً رئيسيًا. حيث تُعتبر تركيا واحدة من المنتجين الرئيسيين للطائرات المسيرة في العالم، وHTS تمتلك عددًا كبيرًا منها. وكلما زاد استخدام هذه التكنولوجيا، كلما تصبح المعارك أكثر شراسة وتعقيدًا. وفي الآونة الأخيرة، استخدمت الجماعات المتمردة السورية طائرات مسيرة محملة بالمتفجرات لاستهداف حفل تخرج للضباط من جيش الأسد، مما يدل على الابتكار المستمر في أساليب والتكتيكات القتالية. لكن تبقى الأسئلة حول ما إذا كانت HTS قد تلقت دعمًا مباشرًا في هذا المجال من تركيا أو جهات أخرى.
تكنولوجيا الطائرات المسيرة وتطويرها تتضمن أيضًا استخدام المطبوعات ثلاثية الأبعاد، ما يُشكل تحولًا فنيًا في طريقة حروب الجماعات المتمردة. تشير بعض الآراء إلى أن هذه الجماعات استطاعت القيام بعمليات تصنيع محلي، مما قد يدل على قدرة الجماعات المتمردة على الصمود والتكيف مع الظروف المتغيرة. هذه القفزة في القدرات القتالية تُمكن HTS من أن تلعب دورًا أكثر تأثيرًا في الصراع المستمر، وتزيد من الضغط على النظام السوري واستدعاء المساعدات من القوى الخارجية.
الدور الإقليمي والدولي في الصراع السوري
تلعب العديد من الدول دورًا معقدًا في النزاع السوري، بما في ذلك تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة. هناك تصور متزايد بأن هذه الدول، على الرغم من اختلاف أجنداتها، قد تتقاطع مصالحها في بعض الأحيان. تتبنى تركيا موقفًا يدعم HTS بشكل غير مباشر، مع الحفاظ على حدود نفوذها في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعات المدعومة من تركيا. وفي الوقت نفسه، تسعى هذه الدول إلى تعزيز أمنها الإقليمي عبر مراقبة تطور الأوضاع في سوريا.
علامات التوتر بين مجموعات المتمردين وفي مقدمتها HTS، تظهر من خلال ردود الفعل حول أنشطة إسرائيل العسكرية. في حين يُظهر قائد HTS مواقف متناقضة، حيث يتجنب الصراع المباشر مع إسرائيل، يبدو أن هناك شعورًا بالتردد في اتخاذ موقف صارم مع الجهات الخارجية. هذا الصراع حول كيفية التعامل مع إسرائيل يظهر التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الجماعات الإسلامية في سياق التوترات الجغرافية والسياسية.
علاوة على ذلك، بقواها العسكرية، فقد زاد عدد القوات الأمريكية في سوريا بعد تصاعد عمليات HTS. الأوضاع الحالية تكشف عن تعقيدات تفكير الولايات المتحدة، والتي تبنت استراتيجيات متعددة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكن ذلك يتداخل الآن مع الديناميات التي تثيرها HTS. تدل التقارير على أن أمريكا دخلت في اتصالات مع HTS، ما يعكس حاجة الولايات المتحدة لفتح قنوات للتواصل مع الجماعات الفاعلة في الأرض.
الأبعاد الاجتماعية والسياسية في سوريا
الصراع السوري يُظهر تحولًا في الفهم الاجتماعي والسياسي بين القوى المختلفة. الصعود المفاجئ لـ HTS من جماعة محلية إلى قوة عسكرية بارزة يُعبر عن مظاهر تعقيد وتفكك النظام السياسي في البلاد. مع تطور الأحداث، يتضح أنه لا يمكن تجاهل هذه الجماعات كقوى رئيسية في إعادة تشكيل مستقبل سوريا. كذلك، يُظهر موقف HTS من القوى الإقليمية ضعفًا في أي إطار قيادي مركزي يتبناه الهيكل الاجتماعي العام.
التحولات التي نراها في الشارع السوري تعكس رغبة في تغيير النظام الحالي، وهذا يُعطي الشرعية لجماعات مثل HTS، والتي تقدم نفسها كبديل للنظام، رغم انتقادات سابقة لها. يشير بعض المحللين إلى أن جماعات المعارضة التقليدية تُعاني من تراجع التأييد، مما يجعل HTS تُروّج لنفسها على أنها القوة الفاعلة التي تكتسب بينما تمر المعارضة التقليدية بمزيد من الصعوبات.
كما أن الديناميات الاجتماعية تؤثر على كيفية نظر الدول العربية الأخرى إلى HTS وتواجدها في المنطقة. بمعنى آخر، الأماكن التي كانت تعج بالمقاومة ضد نظام الأسد قد تشهد تحولات أكبر نحو البحث عن الشرعية، مما يتيح لـ HTS مزيدًا من النفوذ المحلي. وبذلك، تتحول المدن الكبرى، المليئة بالتحديات، إلى ساحة مفتوحة لتخفيض التوترات ومظاهرة قوى جديدة في النزاع القائم.
رابط المصدر: https://www.npr.org/2024/12/19/nx-s1-5232809/syria-hts-funding
تم استخدام الذكاء الاصطناعي ezycontent
اترك تعليقاً