في عالم يتصف بتعقيداته المتزايدة، تبرز أهمية الربط بين العلم والسياسة بشكل جلي. فبين الفيروسات القاتلة، والتغير المناخي، والصحة النفسية، تظل الحكومات بحاجة ماسة إلى العلم لإرشاد سياساتها. ولكن، تشير نتائج استطلاع أجرته مجلة Nature بأن النظم التي تربط العلماء بصناع القرار ليست فعالة كما ينبغي، حيث أبدى نحو 80% من المشاركين في الدراسة، من المتخصصين في مجال العلم والسياسة، رأيهم بأن أنظمة تقديم المشورة العلمية في بلادهم تعاني من الفقر والقصور. تكشف هذه المعطيات عن تحديات كبيرة تواجه الحكومات خلال محاولتها اتخاذ قرارات مستندة إلى أدلة علمية موثوقة، وهو ما يثير تساؤلات حول فعالية هذه الأنظمة وضرورة إعادة التفكير فيها. في هذا المقال، سنستعرض طبيعة العلاقة بين العلم وصانعي القرار، التحديات الراهنة، ونبحث في الحلول الممكنة لتطوير آليات المشورة العلمية.
التحديات العالمية التي تواجه أنظمة تقديم النصائح العلمية
في عصرنا الحالي، تبرز العديد من القضايا الملحة التي تتطلب تواصلًا فعالًا بين العلوم والسياسة. يتضمن ذلك الفيروسات القاتلة، الذكاء الاصطناعي، الطقس المتطرف، الملوثات الدقيقة، والصحة النفسية. تعتبر هذه القضايا محورية في تشكيل السياسات الحكومية، ولكن تشير استطلاعات رأي الخبراء في مجال علوم السياسة إلى أن الأنظمة القائمة لتقديم المشورة العلمية تعاني من قصور كبير. وفقًا لمسح أجرته مجلة «Nature»، أعرب 80% من المشاركين عن أن نظام تقديم النصائح العلمية في بلدانهم إما ضعيف أو غير مكتمل، بينما اعتبر 70% أن الحكومات لا تستخدم هذه النصائح بشكل روتيني.
هذا التحدي يسلط الضوء على فجوة كبيرة بين العلماء وصانعي السياسات، حيث يشعر الباحثون بأنهم يفتقرون إلى فهم كيفية عمل السياسات، بينما يعتقد صناع القرار أن لديهم نقصًا في المعرفة العلمية. هذه الديناميكية قد تؤدي إلى سوء اتخاذ القرار، خاصة في أوقات الأزمات مثل جائحة كوفيد-19، حيث كانت الحاجة إلى استشارة علمية موثوقة وفعالة ضرورية. ولكن التحديات لا تقتصر على الفهم فقط، بل أيضًا تتعلق بالثقة المتراجعة في الخبراء والدليل العلمي، نتيجة للمعلومات المضللة والمناهضة للعلم.
التجارب العالمية في تحسين تقديم النصائح العلمية
تتجه العديد من البلدان نحو إعادة التفكير في كيفية توفير النصائح العلمية، بما في ذلك إنشاء نماذج جديدة. على سبيل المثال، تقوم فنلندا بتجريب نماذج مختلفة لتوفير المشورة العلمية. تعتبر هذه التجارب خطوة رئيسية في مواجهة التحديات المعقدة التي تتعلق بقضايا مثل المناخ والصحة النفسية وسوء المعاملة بين الأجيال. في الولايات المتحدة، تسعى الأكاديمية الوطنية للعلوم إلى تسريع توفير النصائح لتتناسب مع الوتيرة السريعة التي يعمل بها صناع السياسات. كما أطلق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، مجلس استشاري علمي العام الماضي وذلك للرفع من مستوى الأبحاث العلمية المستخدمة في صناعة القرار.
ومع ذلك، لا يزال هناك شعور بأن أنظمة تقديم النصائح العلمية بحاجة إلى مزيد من التحسينات. على سبيل المثال، يشير بيتر غلوكمان، المستشار العلمي السابق لرئيس وزراء نيوزيلندا، إلى أن أنظمة تقديم النصائح العلمية الحالية ليست مصممة للتعامل مع القضايا المعقدة التي يواجهها المجتمع مثل الهجرة والاستجابة لتغير المناخ. هذه التحولات تدل على ضرورة وجود إطارات عمل جديدة تستند إلى التعاون بين العلماء وصنّاع السياسات، مع التركيز على الأداء العملي والنماذج المنفتحة.
أهمية وجود هيكل مستقيم لمراقبة استخدام العلم في السياسات الحكومية
تعتبر تجربة سوللي زوكمان، أول مستشار علمي حكومي في المملكة المتحدة، نموذجًا يحتذى به في كيفية الحاجة إلى وجود هيكل مستقيم لمراقبة استخدام العلوم في الحكومات. لقد أدت الممارسات الأولية زوكمان إلى نموذج مستشاري العلوم الحاليين الذين يدعمون وزراء الحكومة ويقدمون المشورة المتخصصة. إن النظام المعقد الحالي، رغم اعتباره “رولز رويس” تقديم النصائح، يحتاج إلى فهم أوضح وشفافية أكبر لكي تتجنب الضغوطات السياسية والنهج غير الدقيق في صنع القرار.
في كثير من البلدان، تلعب الأكاديميات الوطنية دورًا مركزيًا في تقديم النصائح مثل الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، التي تعد ركيزة لتقديم المشورة العلمية. إضافة إلى خبراء من مكاتب السياسات العلمية، تتشكل مجموعة متنوعة من الجهات والهيئات التي تساهم في استخدام الأبحاث لإفادة الحكومة. ومع ذلك، هناك اعتقاد شائع بأنه يستوجب تحسين فاعلية المستشارين العلميين وتأثيرهم في الحكومة لتحقيق نتائج ناجحة.
أثر جائحة كوفيد-19 على النظم العلمية والنصائح الحكومية
جاءت جائحة كوفيد-19 كحدث فارق في تقديم النصائح العلمية، حيث أظهرت قوة وضعف الأنظمة الموجودة. إن بعض الدراسات أظهرت أن حوالي 60% من المشاركين يعترفون بأن النصائح العلمية قد تم أخذها بعين الاعتبار في السياسة المرتبطة بالجائحة. ومع ذلك، هناك ربع هؤلاء المشاركين يعتبرون أن انهيار النصائح العلمية كان سببًا رئيسيًا في ارتفاع معدل الوفيات الناتج عن الجائحة.
هذا حدث كاشف، على سبيل المثال، الهفوات الكبيرة في القيادة العلمية وكفاءة المعلومات المقدمة لصنّاع القرار، حيث أبدى مشاهير مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عدم اكتراثه للمعطيات العلمية. لقد أظهرت هذه الفجوة على مستوى القيادة الصحية ضرورة إنشاء آليات استشارية موحدة لتحقيق استجابة أفضل للأزمات في المستقبل.
الدرس الأهم بعد جائحة كوفيد-19 هو الحاجة الملحة لتحسين النظم الاستشارية العلمية. ينبغي توجيه الجهود نحو تطوير آليات أكثر مرونة وسرعة في الاستجابة للأزمات، مع استناد هذه الآليات إلى البحث العلمي المتين والمعلومات المدعومة بالأدلة. تحضر الأنماط البديلة من النصائح “الخفية” من قبل العلماء إلى السطح، مما يعكس الرغبة في تجاوز الثقوب والصفقات السياسية الغامضة وتقوية الصلة بين العلوم والسياسة.
أهمية الاستشارة العلمية خلال الأزمات
تسلط الأحداث العالمية، مثل جائحة كوفيد-19، الضوء على الحاجة الماسة للاستشارات العلمية في صنع السياسات. خلال هذه الأوقات، يتوجه صناع القرار إلى العلماء للحصول على معلومات موثوقة يمكن أن تساعدهم في وضع استراتيجيات فعالة لمواجهة التحديات. يشير الباحثون إلى أن وجود علماء يمتلكون خبرات متنوعة أمر حاسم لتقديم استشارات تشمل جميع الأبعاد المتعلقة بالسياسة العامة. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تم تأسيس مجموعة “ساند” المستقلة من قبل علماء في عام 2020 نتيجة الشعور بالافتقار للشفافية في توصيات مجموعة SAGE الحكومية. كان الهدف من هذه المجموعة هو تمثيل آرائهم في المشهد العلمي الرسمي وتوسيع نطاق النقاش العام حول استجابة الحكومة للجائحة.
تجارب مماثلة تكثرت في العديد من الدول مثل الفلبين، حيث ظهرت مجموعة OCTA Research كفريق طوارئ يقدم استشارات علمية حيث كانت تضم مجموعة واسعة من الخبراء من مختلف التخصصات. أحد أسباب نجاحها كان قدرتها على التواصل بطريقة لا تضر بمصداقية السياسيين، مما يجعلهم أكثر انفتاحاً على الأفكار الجديدة والابتكارات.
ومع ذلك، فإن تحديات الاستشارة العلمية لا تقتصر على مستوى فني فقط، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا تنظيمية وتقنية تتعلق بكيفية دمج العلماء في دوائر اتخاذ القرار بطريقة فعالة. ويشدد الباحثون على ضرورة وجود آليات تسمح بإدماج تنوع الاختصاصات العلمية في النقاشات حول صنع السياسات.
تعارض الاستشارات العلمية والسياسات الحكومية
على الرغم من الأهمية المتزايدة للاستشارات العلمية، تظهر عادة توترات بين العلماء وصناع القرار. في بعض الأحيان، يُنظر إلى توصيات علماء باعتبارها تحدياً للقرارات الحكومية بدلاً من كونها نقاط إرشاد. تصف سوزان ميتشي، وهي باحثة في السلوكيات والعلاقات الإنسانية، تجربتها كعضو في مجموعة SPI-B، حيث شعرت بالإحباط بسبب عدم تلقي المجموعة أي ردود على نصائحهم. هذا يعكس الحاجة إلى بناء علاقة تفاعلية بين العلماء وصناع القرار، حيث يمكن لكليهما طرح الأسئلة وتبادل الآراء حول الحلول الأكثر فعالية.
تجربة مختلفة تأتي من فنلندا، حيث أطلق مبادرة جديدة تهدف إلى تعزيز التعاون بين العلماء وصناع القرار. من خلال إجراء تجارب علمية تستهدف تقديم نماذج عمل جديدة، يسعى هذا البرنامج إلى إحداث تغيير حقيقي في طريقة اعتماد السياسات الحكومية. هذه التجارب تعد بمثابة منصة لتطوير حوار مستدام بين المجتمع العلمي والمجتمع السياسي.
التحديات التي تواجه الاستشارات العلمية في التطور المستقبلي
مع شيوع التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، يجب على العلماء النظر في كيفية تطبيق هذه الأدوات لتسهيل عملية تقديم المشورة العلمية. في هذا الإطار، يعبر العديد من المشاركين في استطلاعات رأي عن أهمية تعلم استخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات الجديدة المكتسبة من المعلومات الخاطئة وانتشار المعلومات المضللة. هذه الديناميكيات تعكس تشكيلاً جديداً للاستشارة العلمية، مما يستدعي توفير المزيد من التدريب والموارد للعلماء ليتمكنوا من دفع مسار النقاش العام.
تؤكد هذه التحولات حاجة الأكاديميين والباحثين إلى أخذ دور أكبر في الحياة السياسية، خصوصاً لتوعية قادة الحكومات بدور العلوم في تعزيز عملية صنع القرار. من الواضح أن قادة العديد من البلدان لم يدركوا بعد أهمية دور الاستشارات العلمية كجزء من القوى البشرية التي تثري منظومة الحكم والسياسة العامة.
الجهود المبذولة لإنشاء آليات استشارة علمية فعالة
تعتبر إنشاء آليات فعالة للاستشارة العلمية من القضايا الملحة التي يتعين على الحكومات معالجتها. العديد من البلدان، بما في ذلك دول ذات دخل منخفض، تفتقر إلى نظام متكامل يضمن مشاركة العلماء في صنع السياسات. في الوقت نفسه، يُظهر بعض الرواد في المجتمع العلمي أهمية تعزيز الأكاديميات العلمية وإنشاء روابط مع الحكومات لتحسين مخرجات الاستشارة العلمية. هذا التوجه يعكس تمرداً على الاعتماد على العلاقات الشخصية فقط، ويؤسس لأسس أكثر صلابة للتعاون.
مع وجود استجابة حكومية غير مناسبة في العديد من الأماكن، يجب أن نبحث عن النماذج الناجحة وتطبيقها في سياقات محلية لتحقق الهدف. دعم قرارات السياسة بحاجة إلى وجود أكاديميات علمية موثوقة ومعترف بها تستند إلى أسس علمية دقيقة، مما يعزز ثقة المواطنين في المعلومات المقدمة.
رابط المصدر: https://www.nature.com/articles/d41586-024-03906-0
تم استخدام الذكاء الاصطناعي ezycontent
اترك تعليقاً