تحول البيوتكنولوجيا: من المركزية إلى اللامركزية

تقديم

تُعد صناعة التكنولوجيا الحيوية الأمريكية تاريخياً ميداناً مركزياً، حيث تركز معظم الشركات في عدد قليل من المدن وتعمل بفِرق من العلماء العاملين داخل الشركة. ورغم وجود أسباب منطقية لهذه الهيكلية المركزية في بدايات صناعة التكنولوجيا الحيوية في الثمانينيات، فقد أظهرت التغيرات الأخيرة في السوق – المتأثرة بتيارات التمويل، القوة العاملة العالمية المتزايدة، وتفضيل نماذج اللامركزية في صناعات أخرى – الحدود التي تواجهها هذه الهيكلية. ومع تفشي جائحة كورونا، برزت الحاجة إلى نماذج عمل قادرة على تخطي قيود المركزية، مما أتاح startups جديدة لإطلاق مشاريعها خارج المراكز التقليدية، والاعتماد على مساحات مختبرات مشتركة، وتوظيف فرق عبر الحدود، والتعاون في مجال الأبحاث بشكل أكثر مرونة. في هذا المقال، نستكشف كيف بدأت التكنولوجيا الحيوية في تبني نماذج عمل لامركزية، وكيف يمكن للمؤسسين الجدد الاستفادة من هذه التحولات لتسريع تطوير الأدوية والعلاجات.

تغير نماذج العمل في قطاع البيوتكنولوجيا

يعتبر قطاع البيوتكنولوجيا تقليديًا عملاً مركزيًا، حيث تتركز معظم الشركات في عدد قليل من المدن، وتعمل مع فرق من العلماء الداخليين. يعود هذا الهيكل المركزي إلى أسباب عديدة، مثل القرب الجغرافي من الجامعات التي تزود القطاع بالمواهب والملكية الفكرية. ومع ذلك، فقد كشفت التغيرات الأخيرة، بما في ذلك تحول نماذج التمويل، وزيادة العولمة في سوق العمل، والتغيرات في سوق العقارات، وكذلك تزايد شعبية النماذج اللامركزية في صناعات أخرى، عن محدوديات المركزية كنموذج سائد. وقد تعززت هذه التغيرات بسبب الوباء، مما دفع إلى ظهور أنماط جديدة من اللامركزية في البيوتكنولوجيا. بدأت الشركات الناشئة بالظهور خارج مراكز البيوتكنولوجيا التقليدية، ويمكن لهذه الشركات مشاركة المساحات المخبرية وتوظيف موظفين عبر الحدود والتعاون في مشاريع بحثية متعددة. هذه اللامركزية لا تؤدي فقط إلى تحسين بيئة العمل، بل تفتح أيضًا الفرصة أمام شركات صغيرة للاستفادة من مواهب متنوعة وابتكار حلول جديدة. قد تشمل هذه الحلول شركات جديدة من نوعها مثل المنظمات اللامركزية المستقلة (DAOs) التي تدخل في مجال تطوير الأدوية. يعد هذا التحول غير تجريبي تمامًا، ولكنه قد يخفض الحواجز أمام دخول الشركات الصغيرة ويساهم في تسريع تطوير الأدوية الجديدة.

المساحات التشاركية والمختبرات السحابية

لقد كانت الشركات البيوتكنولوجية عمومًا عبارة عن شركات ناشئة صغيرة تركز على تطوير الأدوية البيولوجية، وتحتاج عادة إلى إجراء أبحاث علمية داخل مختبر خاص بها. ومع انتشار الوباء، أصبحت المساحات المخبرية نادرة جدًا في بوسطن وغيرها من المراكز المعروفة في البيوتكنولوجيا. أدى هذا النقص إلى ابتكار نماذج جديدة مثل نموذج “WeScience” الذي يسمح للشركات الناشئة بمشاركة المكاتب والمختبرات. أصبحت هذه المساحات التشاركية خيارًا جذابًا للشركات الصغيرة التي تبحث عن تخفيض التكاليف وزيادة التعاون. بالإضافة إلى ذلك، بدأت بعض الشركات بالتخلي عن المساحات المادية لمختبراتها والاتجاه نحو نماذج البيوتكنولوجيا الافتراضية، التي تنطوي على استئجار خدمات من منظمات بحثية تعاقدية، وتسمح بتقليل التكاليف بينما تبقي على الجودة العلمية.

يمكن لمثل هذه النماذج أن تقدم خدمات متقدمة مثل التجارب السريرية وإرسال استبيانات التنظيم إلى المختبرات الأكاديمية للقيام بالأبحاث اللازمة. في سياق هذه التحولات، يمكن اعتبار تجربة شركة “Loyal” مثالًا جليًا على قدرة البيوتكنولوجيا الافتراضية على تحقيق نتائج ملحوظة من خلال الاعتماد على شركات CRO، وهو ما يظهر جدوى تصعيد التعاون في مجال البحث والابتكار. ومع ذلك، تبقى هذه النماذج الافتراضية تواجه بعض التحديات المتعلقة بالابتكار الحر الذي يمكن أن يقدمه العمل في مختبرات مخصصة.

تعزيز المواهب والتمويل في البيوتكنولوجيا

سابقًا، كانت الشركات الناشئة في البيوتكنولوجيا بحاجة إلى الشراكة مع شركات الأدوية الكبرى أو جمع رأس المال من شركات التمويل المغامرة للحصول على استثمارات مبكرة. كان المستثمرون يميلون إلى إسداء النصح وتنظيم دخول الموارد. لكن في السنوات الأخيرة، لاحظنا تحولًا في هذا النمط، حيث أدى الارتفاع في حركات مثل البيوتكنولوجيا التي يقودها المؤسسون إلى خلق مساحة جديدة للابتكار. اليوم، حصل المؤسسون على خيارات تمويل أكثر تنوعًا، بما في ذلك فرص تمويل خارج شركات البيوتكنولوجيا التقليدية. منذ أن زاد مستثمرو التكنولوجيا من استثماراتهم في البيوتكنولوجيا، أصبحت الشركات الناشئة مع فرص أفضل وتمويل قوي يساهم في تعزيز الابتكار.

عملت العديد من البرامج تسريع النمو مثل “Petri” على دعم المبتكرين الجدد من خلال تقديم تعليمات ودورات تدريبية ورسم شبكات تدعم التعاون بين مؤسسي البيوتكنولوجيا. في النهاية، هذا التحول يسهل العمل بين مختلف المؤسسين ويسمح بتشكيل شركات متنوعة وفتح نقاشات جديدة تلهم الابتكار. وقد نجحت هذه الخطوات في إعادة ترسيم قواعد اللعبة في مجال البيوتكنولوجيا، وبالتالي خفضت الحواجز أمام دخول المزيد من المبتكرين الجدد إلى السوق.

التعاون عبر الشبكات اللامركزية

تعتبر نماذج التعاون الجديدة جزءًا أساسيًا من التحول في عالم البيوتكنولوجيا، حيث يواصل العلماء ورجال الأعمال تشكيل فرق لامركزية لتحقيق أهداف مشتركة. لقد أظهرت بعض الحالات التجريبية مثل “Perlara PBC” كيف يمكن لنماذج التعاون اللامركزية أن تؤدي إلى تحسين معدلات النجاح في الدراسات السريرية. تعتمد فكرة “Perlara 2.0” على إنشاء شبكة من الاستشاريين العلماء الذين يعملون معًا لوضع خرائط طريق لعائلات المرضى والهيئات التي تبحث عن علاجات لأمراض نادرة، مما يساهم في إدارة المشاريع وتوجيه الأبحاث نحو نتائج فعالة.

ترتبط هذه الاتجاهات بتزايد الحاجة إلى تنسيق أفضل بين الباحثين وتبادل الأفكار والمعلومات، مما يعكس قدرة البيوتكنولوجيا على التطور بطرق جديدة تساعد على تعزيز الاكتشافات العلاجية. وفي سياق آخر، يعكس “Phage Directory” نموذجاً آخر من التعاون، حيث يتم تجميع العلماء لمواجهة التحديات الصحية من خلال علاج مقاومة البكتيريا للأدوية. هذه النماذج تظهر كيف يمكن للتعاون بين مجتمعات البحث أن يفتح آفاق جديدة في تطوير العلاجات ويساهم في بناء استجابات فعالة للأزمات الصحية العالمية.

الابتكار في العلاجات المخصصة

تعتبر العلاجات المخصصة من أبرز وأهم التطورات في مجال الطب الحديث، حيث تمثل اتجاهاً ثورياً في كيفية معالجة الأمراض. في سياق طبي متنام، تتطلب بعض الحالات الصحية علاجات فردية تناسب الاحتياجات الخاصة لكل مريض. تمثل الشبكة التي تدعم معالجة العلاجات من المختبر إلى غرفة الفحص مثالاً حياً على كيفية تقديم العلاج المناسب للأفراد الذين استنفدوا جميع الخيارات التقليدية، مثل المضادات الحيوية. عبر مبادرة مثل “Phage Directory”، تم تحقيق العلاجات المتخصصة التي تتماشى مع إطار الاستخدام الرحيم أو العلاج التجريبي، مما يضفي طابع الإنسانية على النظام الصحي، ويعالج الحالات المستعصية بشكل فعال.

إن مفهوم “n-of-1” يعكس فكرة العلاجات الفردية، حيث يأخذ الأطباء في الاعتبار الجوانب الوراثية والبيئية والسلوكية لكل مريض، ما يمكنهم من تصميم علاج يناسب اختلافات الحياة الفردية. تتطلب هذه العملية تكاملاً وثيقاً بين العلماء والأطباء والمراكز البحثية، مما يمكّن من تحقيق نتائج رائعة. على سبيل المثال، الحالات التي استجابت لبعض الفيروسات أو العدوى قد تتطلب استخدام الفاجات، وهي فيروسات تستهدف البكتيريا، لعلاج المشاكل الصحية التي تبدو مستعصية.

فائدة المشاريع الممولة من DAOs في التكنولوجيا الحيوية

بفضل التطور السريع في التقنيات الحديثة، أصبحت الفكرة من وراء DAOs (المنظمات المستقلة اللامركزية) في التكنولوجيا الحيوية واضحة، حيث يُعتبر مشروع “Molecule” أحد أبرز الأمثلة. لقد تم تأسيسه بهدف تطوير نظام جديد بالكامل لدعم تطوير الأدوية في مراحلها المبكرة. من خلال استخدام الملكية الفكرية في شكل رموز غير قابلة للتباديل (IP-NFTs)، يفتح المجال للمستثمرين والمجتمع بشكل عام للاستثمار في الأبحاث التي كانت تقليديًا مقيدة بمشاريع محددة تمولها الحكومة.

من خلال DAO مثل “VitaDAO”، يمكن للعلماء والمستثمرين ومعهم المجتمع أن يشاركوا في تقييم المشروعات البحثية وتمويلها بشكل جماعي. على مدار عشرة أشهر، قامت VitaDAO بتقييم أكثر من 60 مقترحاً بحثياً واستثمرت ما يقرب من مليوني دولار في عشرة مشاريع، وهو أمر يمثل تحولا في كيفية تمويل الأبحاث في المجال الحيوي. هذه السرعة في العمل تعكس فعالية النظام اللامركزي، حيث يمتلك المجتمع كلمة في المشاريع التي يتم تمويلها، كما تتيح حرية أكبر في الابتكار وتجربة الأفكار الجديدة.

التحديات والنقد الموجه للتكنولوجيا الحيوية اللامركزية

على الرغم من الفوائد العديدة للتكنولوجيا الحيوية اللامركزية، إلا أن هناك بعض التحفظات والنقد الذي يوجه لهذا الاتجاه. من خلال المناقشات الأكاديمية، يتفق الخبراء على أن النظم المركزية قد تكون أكثر فعالية في بعض الحالات. بعض المشاريع البحثية تحتاج إلى تواجد فرق متخصصة تعمل في بيئة مغلقة، الأمر الذي يمكن أن يكون أكثر كفاءة ويؤدي إلى نتائج أفضل.

يتطلب تحسين النظام الناشئ من التجارب اللامركزية الاستجابة لتوقعات ومخاوف المجتمع العلمي. لطالما كانت هناك حاجة لدراسة أثر هذه النماذج على نتائج الأبحاث وتطوير الأدوية. ما إذا كان ينبغي احتضان هذه الفكرة برمتها أو إدخال تعديلات عليها ليتم تنفيذها بشكل أكثر فعالية هو موضوع يستحق بحثاً عميقاً. يأتي النقد من حقيقة أن تطوير الأدوية عملية معقدة تتطلب دقة وموارد كبيرة، وقد لا تكون كل الجوانب قابلة للتطبيق بشكل ناجح في بيئة لامركزية.

التفكير المستقبلي في تطوير الأدوية

يبدو أن هناك حاجة ملحة لاستكشاف الطرق اللامركزية في تطوير الأدوية، حيث يتوجب التفكير في كيفية تحسين كل جزء من عملية تطوير الأدوية لصالح المرضى. الاستثمار في الأبحاث في هذا الاتجاه أوضح أن هناك مجال للتجريب واختبار استراتيجيات جديدة. تلك التجارب يمكن أن تؤدي إلى تسريع وتيرة تطوير الأدوية وإتاحة نتائج أفضل لمجتمعات متعددة.

مع ظهور الفكرة الجديدة للتقنيات الحيوية اللامركزية، تتزايد التكهنات حول كيفية تأثيرها على النظام الصحي التقليدي. لماذا لا نستفيد من التجارب المختلفة بجميع مكوناتها، ونجمع بين الأنظمة المختلفة لتحقيق أعلى مستويات الكفاءة؟ من خلال فتح الأبواب أمام الابتكار وإتاحة الوصول إلى قنوات تمويل جديدة، يمكن أن نتوصل إلى حلول أكثر شمولاً وتعافياً لمرضى العالم.

رابط المصدر: https://future.com/a-guide-to-decentralized-biotech/

تم استخدام الذكاء الاصطناعي ezycontent