في العقود الأخيرة، أصبحت علوم الأعصاب من أبرز المجالات التي تثير فضول الباحثين، تركز اهتمامهم على دراسة أحد أكثر الأعضاء غموضًا في الجسم: الدماغ. وقد أثبتت الأبحاث أن الفروق الجنسية تتجاوز مجرد الأعضاء التناسلية والهرمونات، حيث تلعب دورًا محوريًا في تفشي الأمراض العصبية والنفسية واستجابة الأفراد للعلاجات. وبينما كان يُعتقد تقليديًا أن الأبحاث تفضل النماذج الذكورية، فإن دراسات حديثة سلطت الضوء على أهمية تضمين الإناث في التجارب البيولوجية. في هذا المقال، سنستعرض التحولات التاريخية في نهج البحث العلمي حول الجنسين، ونتوقف عند التطورات الرئيسية التي أدت إلى الاعتراف بأهمية اختلافات الجنسين في فهم آليات الدماغ والأمراض المرتبطة به.
تاريخ البحث في علم الأعصاب والفجوة بين الجنسين
يعتبر علم الأعصاب من التخصصات العلمية التي جذبت اهتمام العلماء لأكثر من نصف قرن، حيث كان التركيز بشكل كبير على فهم آلية عمل الدماغ والسلوكيات المرتبطة به. لقد ركزت أغلب الدراسات في البداية على نماذج ذكور الحيوانات والبشر، مما أدى إلى تعزيز الفجوة بين الجنسين في هذا المجال. كان الاعتقاد السائد هو أن البيانات المتعلقة بالذكور أقل تعقيدًا واحتواءً على تباين عن البيانات المتعلقة بالإناث بسبب الدورة الشهرية للإناث، والتي تُعتبر غير مستقرة وفقًا للمفاهيم السابقة. ومع تطور الأبحاث، بدأ العلماء يدركون أن هذا الاعتقاد كان له تأثير سلبي على تقدم المعرفة في علم الأعصاب وزيادة الفجوة بين الجنسين في العديد من الاضطرابات العصبية والنفسية.
خلال التسعينيات، قدم العلماء مجموعة من الدراسات التي قلبت التصورات التقليدية عن الدماغ. الدراسات التي أُجريت من قبل الراحل بروس مكيوين وفريقه في جامعة روكفلر أظهرت تأثير هرمون الاستراديول، وهو هرمون جنسي أنثوي، على كثافة المشابك في منطقة الحَُُُُُُُُُُُُُُُُُيَّة الدماغ. أكدت هذه الدراسات أن تأثير الهرمونات يمتد ليشمل جوانب تتجاوز الوظائف الإنجابية. هذا التقدم في الأبحاث كان بمثابة الزلزلة التي دفعت الكثير من الباحثين للاعتراف بضرورة شمول الإناث في الدراسة والتجارب السريرية.
الجهود لتحقيق المساواة في البحث العلمي
يعد إصدار قانون تعزيز المشاركة النسائية في التجارب السريرية في عام 1993 من قبل الكونغرس الأمريكي خطوة مهمة نحو علاج الفجوة بين الجنسين في البحث العلمي. على الرغم من أن هذا القانون أسفر عن زيادة تمثيل النساء في التجارب السريرية، إلا أن التأثير على الأبحاث الأساسية لم يكن ملحوظًا حتى فترة متأخرة. في عام 2016، أُطلقت سياسة “الجنس كمتغير بيولوجي” من قبل المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، مما أدى إلى التأكيد على ضرورة تضمين الجنس في تصاميم الأبحاث، التحليلات، والتقارير في جميع الدراسات الطبية الحيوية.
يُعتبر هذا التحول نحو تضمين الإناث في البحوث خطوة رئيسية نحو معالجة التحيزات القديمة في هذا المجال. ومع ذلك، لم يكن لدى جميع العلماء الاستعداد الكامل لقبول هذا التغيير. بعضهم أعربوا عن مخاوفهم من أن تضمين نماذج الإناث يمكن أن يؤدي إلى زيادة في المتغيرات والتعقيدات في الأبحاث. ومع ذلك، أثبتت العديد من الدراسات، بما في ذلك الأبحاث على الفئران، أن الفجوة في النتائج السلوكية والعصبية بين الذكور والإناث كانت أقل مما كان يُعتقد سابقًا، مما يعيد صياغة قواعد البحث العلمي.
الفجوة بين الجنسين في النتائج البحثية
على الرغم من التقدم في إدماج الإناث في الأبحاث، إلا أنه وُجد أنه بين عامي 2009 و2019، بقيت نسبة الدراسات التي التزمت بتصميم مثالي للتحقيق في الفروق بين الجنسين منخفضة. فقط 19% من الدراسات كانت تستخدم تصميماً مثالياً لاكتشاف الفروق المحتملة بين الجنسين. في حين أن نسبة 5% فقط من الدراسات تضمنت الجنس كمتغير اكتشاف. هذا يشير إلى أنه رغم وجود تقدم في تقليل الفجوة، إلا أن هناك حاجة ملحة لمواصلة تطوير تصاميم الأبحاث لتكون أكثر شمولية ودقة.
تعد الفروقات بين الجنسين ضرورية لفهم الأمراض النفسية والعصبية، حيث تمثل الفروق البيولوجية بين الذكور والإناث فارقًا كبيرًا في مدى انتشار بعض الاضطرابات العصبية والنفسية. على سبيل المثال، يظهر أن النساء لديهن استجابات سلوكية وتجريبية مختلفة تجاه الضغوط، الألم، والخوف مقارنة بالذكور. تمثل هذه الفروق أهمية كبيرة في تطوير العلاجات والأدوية، مما يبرز الحاجة إلى اختبارات دقيقة وشاملة تعكس التركيب البيولوجي لكل من الجنسين.
التوجه نحو علم الأعصاب الأكثر شمولية
أصبح من الواضح أن دراسة الفروق بين الجنسين هي عامل حاسم لتحسين فهمنا للأمراض العقلية والعصبية. يجب أن تعتمد الأبحاث على تصاميم تأخذ في الاعتبار الاختلافات البيولوجية بين الجنسين، حيث أن البيانات التي تعكس تعقيدات الجنسين تؤدي إلى نتائج أكثر دقة وواقعية. يمثل ذلك نقلة نوعية ومثيرة في الأبحاث، حيث يكسر المفاهيم التقليدية عن كيفية عمل الدماغ ويقدم رؤى جديدة حول كيفية استجابة الذكور والإناث للأدوية والعلاجات المختلفة.
إن فهم البيولوجيا الفريدة لكل من الجنسين يمكن أن يحدث تأثيرًا كبيرًا على كيفية تطوير العلاجات، مما يؤدي إلى أدوية أكثر فعالية وشخصية. في هذا السياق، يعتبر من الضروري أن يدرك الباحثون تأثير الجنس في دراساتهم وأن يسعوا لتطوير الأبحاث التي تسلط الضوء على هذه الفروق. سيؤدي ذلك إلى مستقبل علم الأعصاب الأكثر شمولية، الذي يستفيد منه الجميع، سواء الذكور أو الإناث، ويعزز الفهم العميق للعقل البشري وما يتعلق به من اضطرابات.
الاختلافات في استجابات الضغوط النفسية أو الممرضة
تُظهر الدراسات أن الاختلافات في استجابات الأفراد للضغوط النفسية أو الممرضة تمثل موضوعًا محوريًا في الأبحاث العصبية. هذه الاختلافات ليست مقتصرة فقط على العوامل النفسية، بل تشمل أيضًا الفروق البيولوجية بين الجنسين. على سبيل المثال، لوحظ أن النساء يتعرضن لتراجع معرفي أسرع مقارنة بالرجال في الحالات المرتبطة بمرض الزهايمر، حيث تمثل النساء ثلثي مرضى الزهايمر. هذا الاختلاف في الاستجابات يعزز من أهمية الدراسات التي تقوم على النموذج غير البشري، حيث أن استخدام نماذج القرود غير البشرية في البحث يكون له مزايا كبيرة نظرًا لتشابهها الجيني والسلوكي مع البشر.
أغنيس لاكروز، عالمة القردة العليا في جامعة ماساتشوستس، تدرس شيخوخة المارموست، وهو نوع من القرود الذي يعيش بين 10 إلى 12 عامًا. من خلال دراستها، اكتشفت أن المارموست المؤنث يظهر تراجعًا معرفيًا أكثر وأسرع من الذكور. وهذا يُظهر كيف يمكن للعوامل البيولوجية أن تؤثر بشكل كبير على تطور الأمراض النفسية والعصبية. لذا، من الضروري إجراء دراسات مقارنة عبر الأنواع لفهم الآليات التي تقف وراء هذه الاختلافات.
استكشاف الفروق الجنسية في خطوط الخلايا
تُعتبر خطوط الخلايا أداة حيوية في دراسة الأمراض العصبية، وقد أسهمت تعزيزات الأبحاث عبر استخدام خلايا جذعية مستحثة متعددة القدرات في توفير أطر عمل جديدة للبحث في الاختلافات الجنسية. خلايا iPSCs، على سبيل المثال، تتجنب الحاجة إلى الأجنة، مما يجعلها نموذجًا أخلاقيًا للدراسة. من خلال دراسة هذه الخلايا، يمكن للباحثين تحليل كيفية تأثير الاختلافات الجينية بين الجنسين على استجابة الخلايا للأمراض مثل الزهايمر.
يُشدد العلماء مثل تريسي يونغ-بيرس على أهمية هذه الخلايا في دراسة المواقع المرتبطة بالزهايمر. تُظهر الأبحاث أن هناك تباينًا في تراكم بروتينات أميلويد بيتا وعلامات أخرى، مما يساعد في وضع قاعدة بيانات متكاملة لدراسة الفروق بين الجنسين. باستخدام هذه النماذج، يصبح باستطاعة الباحثين فهم كيفية تفاعل المتغيرات الجينية مع بعضها البعض وتأثيرها على بيولوجيا الخلايا.
ومع ذلك، تبقى هناك تحديات. حتى الآن، لا تزال الغالبية العظمى من خطوط iPSC المستخدمة تُشتق من الذكور، مما قد يؤدي إلى عدم توازن في النتائج. يستمر العلماء في العمل على تحقيق تمثيل أفضل للنساء في الأبحاث، الأمر الذي يفتح الأبواب لفهم السلوكيات المرضية من منظور شامل.
نظرة إلى المستقبل مع سياسة SABV 2.0
مرور عشر سنوات على سياسة متطلبات الدراسة على أساس الجنس (SABV) يعكس الحاجة المستمرة لإجراء تحسينات في البحث العصبي. تركيز العلماء على متطلبات هذه السياسة يعكس الوعي المتزايد بأهمية الفروق الجنسية. تعتقد أغنيس لاكروز أن الوقت حان لإعادة تقييم المتطلبات الحالية وإمكانية تطوير سياسة جديدة تعزز من البحث في هذا المجال.
من المهم إدراج النساء في جميع الدراسات العلمية لأنه يُنظر إلى الجنس كعامل يؤثر في مختلف جوانب السلوك الدماغي والأمراض. ومع أن الدراسات تبرز الفروق، فإن ذلك لا يعني بالضرورة تفضيل جنس على آخر. يكمن التحدي الأكثر أهمية أيضًا في كيفية تفسير البيانات بين الجنسين وتقديم رؤية متوازنة للنتائج.
تؤكد شانسكي على أهمية تطوير أدوات تحليل البيانات وتحسين النماذج، مثل دمج العوامل البيئية التي تؤثر في الصحة والمرض. إن الطموح الآن هو انتقال من الانتباه إلى مجرد الاختلافات البيولوجية إلى فهم الأنماط الأكثر تعقيدًا مثل الهوية الجندرية، مما يساعد في توجيه الأبحاث المستقبلية بشكل أكثر دقة.
بالتالي، تبقى التوقعات إيجابية بشكل عام بشأن سياسة SABV. تُظهر الأبحاث المستمرة كيف أن الفرضيات القديمة حول عمل الدماغ أصبحت تحت التحدي، مما يفتح آفاقًا جديدة للابتكارات والاكتشافات في مجال العلوم العصبية.
رابط المصدر: https://www.the-scientist.com/xx-marks-the-spot-addressing-sex-bias-in-neuroscience-72129
تم استخدام الذكاء الاصطناعي ezycontent
اترك تعليقاً